شرعية مزيفة: كيف أسهمت وسائل إعلام عربية في إضفاء مصداقية على حساب وهمي؟
محمد الهمداني
يشهد الفضاء الرقمي اليمني انتشاراً ملحوظاً لحسابات مزيفة، تنتحل هويات شخصيات سياسية وإعلامية، تكتسب مع مرور الوقت شعبية بفعل إعادة تداول محتواها؛ في ظاهرة لا يمكن عزلها عن سياق الصراع الأوسع، وحالة الاستقطاب الحاد التي تعيشها البلاد منذ سنوات.
تتبعنا في هذا التقرير حساباً وهميّاً على منصة إكس، يدعى “موشي جرادي“، اكتسب مصداقية مصطنعة وانتشاراً كبيراً بفعل تداول محتواه من قِبل وسائل إعلام عربية، دون تحققها من هوية صاحب الحساب، ما منحه غطاءً شكليّاً من الشرعية في الفضاء الرقمي.
حساب “موشي جرادي”.. ما حقيقته؟
أنشئ حساب “موشي جرادي” بتاريخ 28 شباط/فبراير 2022، والذي كان يعرّف نفسه بأنه “يهودي يمني”، يتابعه أكثر من ربع مليون عبر منصة “إكس” حتى تشرين الأول/أكتوبر 2025. صنفته منصة فافيكون Favikon المختصة بنشر تقارير حول نشاط الحسابات عبر بعض المنصات لكل دولة، ضمن قائمة أفضل 20 مؤثراً على منصة “إكس” في إسرائيل لعام 2025.

تصنيف منصة فافيكون لحساب جرادي ضمن قائمة الشخصيات الأكثر تأثيراً في إسرائيل عام 2025

تُظهر أداة Social Insider التي تبين أداء وتفاعل الحسابات عبر منصات التواصل، ومنها “إكس”، أن الحساب حقق خلال الفترة (2-31 تموز/يوليو 2025) إجمالي 43 مليون مشاهدة، و534 ألف تفاعل، موزعة بين إعجاب، وتعليق، وإعادة نشر.
خضع الحساب لعدة تغييرات في الاسم منذ إنشائه في شباط/فبراير 2022، حيث أظهرت بيانات الأرشيف أن الحساب كان مسجلاً في البداية باسم “ذو ريدان“، ويحمل التعريف: rydan711@، ثم تغيّر إلى ريدان، ثم مروان ريدان، بالتعريف: reidan711@، ثم تغير الاسم جذريّاً إلى يائير موشى، بمعرف يبدأ بـ: …wn7@، ثم موشى يائير بالمعرف (Yair840@) ثم المعرف: mosha3324@، وفي آذار/مارس 2025، تحوّل إلى موشي جرادي، فموسى جرادي، ثم العودة في 4 أيلول/سبتمبر 2025 إلى موشي جرادي، بالمعرف نفسه.

التغييرات التاريخية في اسم ومعرّف الحساب منذ إنشائه في شباط/فبراير 2022
مؤشرات تدعم فرضية “وهمية الحساب”
عدا عن التغييرات في الاسم والمعرف الشخصي، تُظهر مواقع الأرشفة أن مالك الحساب عرَّف نفسه في البداية بوصفه “موشى اليمني، صحفي مهتم بالشأن العربي”، فضلاً عن كونه يهوديّاً من أصول يمنية، واستخدم صورة للحساب قد تدلّ على ذلك، إلا أن هذه المعلومات حُذفت لاحقاً، وهو ما قد يندرج في إطار التلاعب.
نشر وسائط مضللة بشأن علاقاته الاجتماعية
بالبحث في أرشيف الحساب، رصدنا فيديوهات، زعم الناشر أنها لأشخاص تربطه بهم علاقات اجتماعية. لكن نتائج البحث العكسي عن أحد الفيديوهات التي نشرها الحساب كانت طرف الخيط الذي قادنا إلى مجموعة على فيسبوك، تُسمى “اليمنيون- الفريق الرسمي”، بالعبرية (תימנים – הקבוצה הרשמית)، وتضمّ يمنيين من جذور يهودية، وهذه المجموعة كانت بمثابة نقطة الانطلاقة في رحلة تفكيك الحساب.

لقطة شاشة تظهر فيديو نشره الحساب لمسنة تعرض مخبوزاتها
بتاريخ 21 تشرين الأول/أكتوبر 2023، نشر الحساب صورة، مدعياً أنها له برفقة جدته “شمعة شرعبي”، وبالبحث في المجموعة، وجدنا الصورة ذاتها نشرها “إيال تيريم“، بالعبرية (אייל טרם)، قبل يوم واحد فقط من التاريخ السابق وقد نشرها على صفحته، مع تعليق: “يدللون الجنود بالقات، ليكونوا يقظين في المعركة.. طوبى لإسرائيل، إذ يُقدّمون كل ما في وسعهم لجنودنا الأعزاء”.

صورة مضللة ادّعى مالك الحساب أنها له برفقة جدته
كما نشر الحساب تغريدة بتاريخ 19 تشرين الأول/أكتوبر 2023، تضمنت فيديو يُظهر مسنة تحضر أكلة “العصيد” الشعبية اليمنية، مدّعياً أنها جدته. وبالبحث في المجموعة باستخدام كلمة مفتاحية “عصيد” “עָסִיד”، وجدنا الفيديو نفسه منشوراً بتاريخ 31 كانون الأول/ديسمبر 2021، بواسطة العضو “إيدي أهريك” “אדי אחרק”، الذي أعاد نشره في المجموعة في 16 تشرين الأول/أكتوبر 2023 مع وصف “لا يوجد شيء في العالم مثل الأم”.

لقطة شاشة من فيديو يُظهر مسنة قال جرادي إنها جدته
وفي فيديو آخر نشره بتاريخ 22 تشرين الأول/أكتوبر 2023، ادّعى أنه يُظهر صديقه كوهين وابنته إستر، ليتبين أن الفيديو منشور في المجموعة بواسطة شخص يُدعى “أفيشاج دهاري” “Avishag Dahari”. عمّقنا البحث في أرشيف المجموعة، فوجدنا عدة فيديوهات منشورة بواسطة المستخدم “شموئيل حداد” “שמואל חדד” تظهر فيها الطفلة ذاتها، وتأكد ذلك لاحقاً من مقاطع أخرى اتضح منها أنها ابنة “حداد”.

لقطة شاشة من فيديو ادّعى الناشر أنه يُظهر صديقه كوهين وابنته إستر
صور ملف شخصي منتحلَة
لاحظنا تغيراً ملحوظاً في الصورة الشخصية للحساب، بملامح مغايرة تماماً لا تبدو أنها للشخص ذاته. وعلى الرغم من استخدام أدوات بحث عكسي مدفوعة، بما فيها PimEyes، لم نتوصل إلى المصادر الأصلية لهذه الصور، لاستعماله “فلاتر” عليها، أو اختيار زاوية بعينها للصورة.
تتبعنا الحسابات، التي نشرت في المجموعة السابقة خلال الفترات التي شهدت قيام مالك الحساب بتغيير صور ملفه الشخصي، للعثور على طرف خيط. استناداً إلى هذا المنطق، وبتضييق نطاق البحث الزمني، استوقفنا بوست منشور في 22 أيلول/سبتمبر 2023، بواسطة “هاريل سعد” “הראל סעד”، فوجدنا أن أقدم صورة للحساب، قد نشرها كصورة شخصية له في 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2020؛ أي قبل إنشاء حساب جرادي بأكثر من عام.

صورة تعود لشخص يدعى “هاريل سعد” انتحلها جرادي سابقاً

لقطة شاشة لمنشور قادنا إلى صورة استخدمها جرادي كصورة شخصية
وعندما كان الحساب اسمه “يائير موشى“، وجدنا أن صورة الحساب تعود أيضاً لشخص يُدعى “جاي دافيد“، كان في المجموعة ذاتها، وعلّق عليها بأنها من افتتاح كنيس “هيكل مئير نسيم” في مدينة روش هاعين “رأس العين”.

صورة تعود لشخص يدعى “جاي دافيد” انتحلها الحساب سابقاً
أما الصورة الحالية، فقد وقفنا على صورة منشورة في المجموعة منذ 21 كانون الأول/ديسمبر 2021، بواسطة العضو “بن إيشاي شرعبي” “Ben Ishay Sharabi”، ولاحظنا وجود شبه كبير في ملامح الشخص الظاهر في الصورة مع صورة الملف الشخصي لحساب جرادي. وبتصفح الملف الشخصي، عثرنا على الصورة ذاتها بالفعل، التي نشرها “شرعبي” في مطلع أيار/مايو 2016، وذكر أنها توثق محطته الأخيرة من فيتنام، وتحديداً في منطقة سابا بمحافظة لاو كاي.

صورة الملف الشخصي الحالية تعود لشخص يدعى “بن إيشاي شرعبي”
سردية الحساب
بتحليل محتوى الحساب بالمعرّف الحالي، تبيّن أن تغريداته تركز على انتقاد إيران وجماعة الحوثي بشدة، وتدعم الضربات الإسرائيلية على إيران واغتيالات قياداتها بوصفها نجاحات استخباراتية. كما يهاجم الحساب بشكل دوري من وصفهم بحلفاء إيران في لبنان والعراق واليمن وسوريا. ويصف قصف الحوثي لإسرائيل بأنه مجرد “مشاغبة” ونكبة على الشعب اليمني.
في المقابل، يشيد الحساب بدولة الإمارات العربية المتحدة، مبرزاً دورها في تقديم المساعدات الإنسانية والتنموية ومواقفها بشأن القضية الفلسطينية، كما يُمجد “طارق صالح” قائد ما تسمى “قوات حرّاس الجمهورية” في الساحل الغربي من اليمن، مصوراً إياه كقائد عظيم ومحرر لليمن، ومُشيداً بدوره فيما سماه “إحباط المخططات الإيرانية” في البلاد.

سحابة تُبرز الكلمات الأكثر تكراراً في تغريدات الحساب – Infra Nudos
الصعود المفاجئ للحساب
في بداية نشاط الحساب، كان عدد المتابعين يقدر فقط بالعشرات، وخلال أسابيع قليلة تطوّر بشكل لافت. بالرجوع إلى مواقع الأرشفة، تبين أن عدد متابعي الحساب كان 442 متابعاً، حتى تاريخ 24 تشرين الأول/أكتوبر 2023، ليصل إلى قرابة 20 ألف متابع بحلول 9 تشرين الثاني/نوفمبر 2023؛ وهي طفرة غير اعتيادية لحساب ناشئ. وبعد خمسة أشهر، وتحديداً في 27 آذار/مارس 2024، وصل إجمالي المتابعين إلى قرابة 167 ألف متابع، ثم تجاوز 238 ألف متابع في تموز/يوليو 2024.

لقطات أرشيفية منفصلة تُظهر تطور نمو متابعي الحساب خلال الفترة تشرين الأول/أكتوبر 2023 – تموز/يوليو 2024
جيش من المتابعين الوهميين
تُظهر البيانات المُستخرجة -عبر أداة Circle Boom التي تساعد على تحليل طبيعة الحسابات المتابعة على منصة “إكس”- أن “الجرادي” لديه نسبة كبيرة من المتابعين الذين قاموا بإنشاء حساباتهم على “إكس” بين عامي 2024 و2025، وهو ما قد يُشير إلى أن هناك ارتباطاً محتملاً بين نشاط هذا الحساب وظهور عدد كبير من الحسابات الجديدة على المنصة، بغرض زيادة أعداد المتابعين أو لدعم حسابات مشابهة. وبتحليل عينة عشوائية (50 ألف متابع)، أظهرت أداة “سيركل بوم” أن أكثر من 21 ألف متابع منهم (42 في المئة) عبارة عن حسابات وهمية.
بتحليل أعمق، رصدنا وجود تشابهات في معرفات 7,431 حساباً، تتطابق في الأحرف وترتيبها، تضاف إليها أرقام عشوائية. على سبيل المثال، أكثر المجموعات تكراراً تضمنت اسم المستخدم mohamed الذي تكرر 239 مرة، (Mohamed8403518، Mohamed8671281،…)، وهي مؤشرات قوية على أنها حسابات روبوتية، تُدار بواسطة جهة واحدة أو مجموعة جهات مترابطة.
يشير القائمون على “منصة صدق”، وهي منصة يمنية محلية اضطلعت بدور فعّال في كشف الحسابات الزائفة وتفكيك سردياتها، إلى أن “مئات الحسابات الزائفة تنشط منذ سنوات، بعضها قصير العمر، وبعضها طويل الأمد يُدار بشكل احترافي لتبدو وكأنها شخصيات حقيقية، لأهداف منها: التأثير في الرأي العام المحلي والإقليمي، وخلق روايات مضللة تخدم أجندات سياسية أو عسكرية، إضافة إلى تضليل وسائل الإعلام والمنظمات الدولية عبر تقديم أنفسهم كصحفيين أو باحثين”.
مصداقية تداولية صنعها الإعلام
بتحليل أكثر من 200 مادة خبرية شاركت تغريدات من الحساب، تبين أن وسائل إعلام عربية وإقليمية متعددة صنعت “مصداقية تداولية” لحساب “موشي جرادي”، ومنحته وجاهةً تجاوزت وزنه الحقيقي، من خلال ثلاثة محددات: الوسم المهني في المتن بوصفه صحفياً إسرائيليّاً، والتضمين التقني للتغريدات، على أنها مصدر أوليّ، إضافة إلى مفعول التكرار عبر منافذ متنوّعة، وهو ما ساعد على انتقال صفة المهنة “كهوية متداولة”.

نماذج من تداول وسائل إعلام لمحتوى الحساب مع إضفاء صفة مهنية على المستخدم
تؤكد منصة “يوب يوب” للتحقيقات مفتوحة المصدر من اليمن، رفضها القاطع الاعتماد على الحسابات التي لديها تاريخ في نشر المعلومات المضللة، مهما كانت المبررات، وتشدد المنصة على أن التعامل مع هذه المصادر كمصادر أساسية أو ثانوية لتأكيد خبر ما، هو أمر غير مهني حتى لو كانت هذه الحسابات تنشر الحقيقة.
تُظهر الصورة الحسابات الأكثر ارتباطاً مع جمهور موشي جرادي. على سبيل المثال: 59.35 في المئة من متابعي الحساب يتابعون حساب قناة “الجزيرة”.

يؤكد القائمون على “منصة صدق” أن إشارة وسيلة إعلام إلى حساب مزيف على أنه “صحفي” أو “باحث”، تُسقط الشكوك عن هويته، وتُظهره أمام الجمهور كصوت حقيقي، ما يُصعّب لاحقاً فضحه، كما أن تكرار الاستشهاد به عبر وسائل مختلفة يخلق وهم “الانتشار الطبيعي”، ما يزيد من فرص قبوله كحساب أصليي، فضلاً عن أن تضمين تغريدات الحسابات المزيفة في تقارير إخبارية يضاعف وصولها ويُعرّف بها جمهوراً جديداً.
الحاجة إلى منهجية رصينة
تحثّ مدونة شبكة الصحافة الأخلاقية (EJN) الصحفيين على ضرورة استشعار “خطر الانخداع” بالمعلومات المغلوطة المنشورة عبر منصات التواصل الاجتماعي، وتشدد المدونة على وجوب التحقق من ملفات تعريف الحسابات لتجنب استخدام معلومات مزيفة، والتساؤل عما إذا كان صاحب الحساب معروفاً وإذا ما كان مصدراً موثوقاً به في الماضي.
يمكن القول إن الشرعية الرقمية لا تُبنى من خلال المحتوى فحسب، وإن كان أصيلاً، بل من خلال تداول هذا المحتوى أيضاً، كما أن الإعلام –دون أن يقصد– قد يكون طرفاً رئيسيّاً في ترسيخ مصداقية مصطنعة لحسابات زائفة، لا وجود لشخوصها على الواقع.